كلمة ﴿له﴾: عبَّر القرآن الكريم بها للدلالة على اقتراب موسى من معلمه مكانا، ومثوله بين يديه ومخاطبته شفهيا، وأنه لم يرسل فتاه مثلا ليقول للمعلم: إن نبي الله موسى أرسلني إليك يطلبك لتعلمه ما لديك من علم، ومعلوم أن المصاحبة والمقابلة واللقاء المباشر كل هذه تبث في النفس روح المودة والراحة وسرعة الإجابة للطلب وتشرح الصدر، وتعطي كل طرف انطباعًا صحيحًا عن الطرف الآخر، كما أن رؤية المعلم للتلميذ تساعده على التعرف على كثير من سماته وصفاته واستعداده التعليمي، ورؤية التلميذ لمعلمه تبعث في نفسه روح السكينة والطمأنينة عند الالتزام، أو القلق والخوف عند التقصير والتهاون في تنفيذ تعليمات المعلم
﴿موسى﴾: أعاد القرآن الكريم اسم نبي الله موسى مجرَّدًا من ألقابه؛ لأنه بين يدي أستاذه وفي حضرته، ولا يليق أن يقدَّم تلميذ لأستاذه مقرونًا اسمه بلقب تشريف أو تعظيم
﴿هل﴾: أداة استفهام تفيد هنا الطلب المصحوب بالرجاء والتوسُّل، وقد تناسى موسى تمامًا في هذا المقام أنه نبي، ولكنه ذو حاجة يرجو أن يحققها له الطرف الآخر
وهنا نتعلم أننا حين نأخذ بيد أولادنا ونذهب بهم إلى العلماء للتربية والتأديب والتعليم لابد أن نبدي تواضعنا، وأن نطلب بأدب وخضوع، وأن نوصي أولادنا بحسن الأدب في دار التعلم مع أساتذتهم وزملائهم
وقد يكون عُمْرُ الأستاذ أصغرَ من عمر الطالب، لكن مقامه أكبر وأرفع وأسمى، فإذا سئل فليُسأل بأدب وخفيض صوت، وإذا حاوره الطالب فلا يسبقه بالقول، ولا يظهر الرفض لكلامه والاستهانة برأيه
﴿أتَّبِعُكَ﴾: انظر -هداك الله- لهذ التعبير، لم يقل مثلا "هل أصحبك"؛ لأن الصحبة قد يكون فيها تقارب في بعض الصفات، لكنه عبَّر بالاتباع، والتابع يلي المتبوع، وهذا معناه أنني سأكون تابعًا لك أسير ما سرت، وأتوقف متى توقفت، وأنصت متى تكلمت، وأجيب متى سألت
﴿أن تُعَلِّمَنِي﴾: لم يقل له (على أن أتَعَلَّم) فيكون كأنه يشترط عليه تبعيته حتى يحصِّل العلم، لكنه قال: (أن تُعَلِّمَنِي) ومعناها عليك أن تشرح وتفسِّر وتبين، وليس عليك أن أخرج من درسك وقد فهمت كل ما قلت، أو أن أعلم مرادك في كل ما تفعل
وهذا يعلمنا درسا حياتيًّا في غاية الأهمية وهو أن على المعلم أن يخلص في عمله بشرح دروسه واستيفاء عناصر فهم التلاميذ لها، أما استيعابهم للدروس فأمر يتوقف على ملكاتهم ومهاراتهم وانتباههم واستعدادهم، فالمدرس متى ما أنجز المطلوب منه بإخلاص ودون تقصير فلا تثريب عليه. لذا طلب موسى من معلمه أن يبذل له من علمه سواء استوعب أو لم
صفات المعلم
يعدُّ المعلِّم أحد أهم الركائز التي تعتمد عليها العملية التعليمية، فلولاه ما وضعت أسسها، ولا اكتمل بناؤها، ولا أثمرت شجارها، فهو المربِّي الذي يغرس في النفوس والعقول القيم والمبادئ ومكارم الأخلاق، وهو الموجه الذي يرسم الطريق السويَّ المنقذ من المهالك والضلالات، وهو المعلِّم الذي ينير بالعلم العقول فيستقيم تفكيرها فتنفض عن سلوكيات أصحابها جهالات ضالة وتوجهات فاسدة مضلِّة، ولقد عنيت آيات سورة الكهف بذكر بعض سمات المعلم وذلك في قوله تعالى: ﴿فوجد عبدًا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنَّا علمًا﴾ ذكر القرآن الكريم للخَضِرِ -عليه السلام- في هذه الآية ثلاث صفات
الأولى والثانية: العبودية المضاف لله، وهي تشريف، والعبودية تقتضي التواضع والخضوع، والرحمة التي تقتضي من المعلم أن يكون لتلاميذه أبًا رحيمًا شفوقًا عطوفًا، يحنو عليهم ويترفق بهم، ويتجنب القسوة لما لها من آثار سيئة تدفع الأولاد إلى التفلُّت من التعليم والهرب من المدارس. وعلى المعلم أن يراجع نفسه بين الحين والحين، ويطور من أدواته التعليمية، ويجِدُّ في تثقيف نفسه، فقد تكون طريقته في الشرح والتدريس غير مناسبة للتلاميذ، أو أن يكون غير قادر على التواصل النفسي والروحي مع التلاميذ، والحب هو شريان التواصل ومغناطيس التجاذب بين طرفي العملية التعليمية. عليه أن يعامل التلميذَ الأقلَّ استيعابًا معاملة الطبيب للمريض يعالج ولا ييأس ويصر على الوصول بمريضه إلى تمام البرء والشفاء، كما على المعلم ألا يبالغ في عقاب المقصرين والمخطئين وبخاصة العقاب بالضرب، وعليه أن يبحث عن سبل عقاب تبعث في نفس التلميذ الندم على التقصير وتجعله يبحث عن وسيلة تساعده على اكتساب ثقة معلمه مرة ثانية
هَبْ أن معلمًا كلما دخل فصله سلَّم على جميع تلامذته وحياهم كلًّا باسمه، ثم جاء يومًا فلم يسلم على واحد مقصِّرٍ منهم، تُرى ما أثر ذلك عليه ؟ هذا عقاب سلبي سيجعل المقصر يراجع موقفه ويصلح من تصرفه
وليس على المعلم أن يرهق تلامذته بكثرة الواجبات المنزلية، أو حفظ مقدار كبير من القرآن الكريم، فلكل امرئ قدرة عقلية وملكة لا يتجاوزها، ولكل مريض جرعة دوائية تكفيه علاجا وبرءا، ومتى تجاوزها انقلبت إلى الضد، وليبتعد المعلم عن العبوس، والسب والشتم وليكن لتلامذته قدوة حسنة
والصفة الثالثة: التي وصف الله بها معلم موسى أن الله هو الذي علمه، والله أيضا معلم كل معلم، وهو الواهب لكلٍّ ما يشاء من العلم على قدر جده واجتهاده، ليتواضع المعلِّم أمام المعلم الأعلى وهو الله، فلا يظننّ أنه أوتي العلم على ذكاء أو سهر أو انتباه فقط منه، بل هناك من أكرمه وكرمه ورفع قدره بالعلم وهو الله، ليجعل شكره وزكاة علمه تواضعا وتعليما لأبناء المسلمين. فطوبى لكل معلم تواضع ورحم وعلَّم، موقنًا أنه ذو رسالة وأنه من ورثة الأنبياء
وللحديث بقية إن شاء
الدكتور محمود مهدي بدوي
من علماء الأزهر الشريف
والخبير بمركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا