لقد شاع بين الناس قول الإنجليز: "الوقت هو المال"، غير أن نظرتنا نحن المسلمين للوقت أسمى وأعمق. فالوقت، شأنه شأن القيم الكبرى، يحمل في طياته خصائص ومزايا، وله في الإسلام منزلة عظيمة ومكانة رفيعة. فقد خلق الله الإنسان، وكلفه بتكاليف، وأمدّه بنعم لا تُحصى، من أجل أداء تلك التكاليف، ومن أعظمها نعمة الوقت، التي هي الوعاء الذي تُنفذ فيه الواجبات وتُحقق الغايات. يقول الحق جل جلاله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور: 44]، ويقول أيضًا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]
إن الوقت سلاح ذو حدين، إن أُحسن استخدامه عاد بالنفع والخير، وإن أُهمل ضاع معه العمر وأثقل كاهل الإنسان بالحسرات. من أحسن استغلاله وملأه بما هو نافع، كان في وقته بركة وثمار، ومن أساء إليه، صرفه في اللهو والضياع، كان عليه وبالًا ونقمة
وقد ضرب القرآن الكريم أروع الأمثلة لبيان أثر استثمار الوقت أو تضييعه. فها هو سبحانه يذكر حال من أحسنوا العمل وصدقوا في استغلال أعمارهم، فيقول: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25–28]
وفي المقابل، يذكر حال من غفلوا وفرّطوا في أوقاتهم، فيندمون حين لا ينفع الندم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير} [فاطر: 36–37]
والعمر رحلة قصيرة، بدايتها الميلاد ونهايتها الوفاة، ولا يعلم ختامها إلا الله جل جلاله، كما قال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]
الوقت لا يتوقف، لا ينتظر أحدًا، ولا يعود أبدًا، فهو كجريان النهر، يمضي دون رجعة. قال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك". وقال ابن عباس رضي الله عنه: "ما من يوم طلعت شمسه إلا قال: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة
وقال بعض الحكماء: "يقال: الوقت من ذهب، وهذا حق لمن يحسب الحياة بالأموال، أما من ينظر إليها ببصيرة، فإن الوقت هو الحياة ذاتها. الذهب إن ذهب قد يعوّض، أما الوقت إن مضى فلا سبيل لعودته، فهو أغلى من كل شيء، لأنه ببساطة: هو الحياة
وللوقت في الإسلام منزلة عظيمة، تتجلى في كثرة ما أقسم الله به من أطوار الزمن في كتابه الكريم، تنبيهًا إلى عِظَمه، وتنويهًا بأهميته، فقد أقسم بالليل والنهار، والفجر والضحى، والعصر والصبح، فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1–2]، وقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1–2]، وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1–2]
ولقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن معظم الناس مفرّطون في هذا الكنز العظيم، فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ
وحتى نبلغ الغايات ونحقق النجاحات، علينا أن نحسن تنظيم أوقاتنا، ونجتهد في عمارتها بما ينفعنا في ديننا ودنيانا، دون كسل أو تردد، والله هو الهادي إلى سواء السبيل
أيها الشاب، أيتها الشابة… أنتما في ربيع العمر، حيث الصفحات بيضاء، والفرص وفيرة، والطموحات تحلّق في الأعالي. لا تظنّوا أن الوقت بحر لا نهاية له، فهو قطرات تتساقط بهدوء، فإذا لم تلتقطوها، تبخرت، وذهبت بلا رجعة
ازرعوا في أيامكم بذور الجدّ والعمل، واسقوها بالإرادة، وانسجوا من لحظاتكم مستقبلًا يليق بأحلامكم. لا تؤجلوا الخير، ولا تستهينوا بالدقائق، فكل لحظة هي لبنة في صرح حياتكم، وكل ثانية إمّا أن تبني أو تهدم. وتذكّروا دائمًا: أنتم أبناء وقتكم، فإن صقلتموه، صقلكم، وإن أضعتموه، ضاع بكم. فابدؤوا الآن… فالآن هو كل ما تملكون
محمد حسين دحلان
باحث في الشريعة الإسلامية