وإن هذه الإجراءات والاحترازات المبذولة للحدِّ من انتشار هذا الوباء التي اتخذتها السلطات الصحية والأمنية في جزر القمر، جاءت متوافقةً مع الشريعة المطهرة، فحفظُ الأرواح والأبدان من مسؤوليات الحاكم، وله تقديرُ ذلك بالرجوع إلى أهل العلم والاختصاص. والواجب على المرء أن يصون نفسه وأنفس مَنْ يعولهم، ويحافظ على سلامتها، ويجنِّبها كل ما يضر بها قدر الإمكان، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]
والمحافظة على سلامة النفوس والأبدان من كل ما يعرِّضها للسوء من آكد الواجبات في الشريعة الإسلامية، وتقرر ذلك قاعدة منع الضرر والإضرار، فلا ضرر ولا ضرار
أيها القراء، إن التوكل على الله عبادة قلبية جليلة، وهو صدق الاعتماد على الله تعالى مع فعل الأسباب، ولهذا كان أفضل المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم يتعالج ويعالج، وإذا قاتل العدو يلبس الدروع ويحتمي، بل لبس درعين في غزوة أحد، وهذا وقاية من شر الأعداء. وقد وجَّه الإسلام إلى ضرورة التداوي من الأمراض والأوبئة، والأخذ بأسباب الشفاء والعلاج والأدوية التي يوصي بها الأطباء والمختصون، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء» (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داء واحد الهرم»؛ (أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد)
والتَّطعيم داخل في جنس الدَّواء والعلاج المأمور به شرعًا، فهو من باب الطبِّ الوِقائي بالنسبة للأفراد، ولاسِيما في الأمراض الوبائية التي يُقدَّرُ فيها الصَّحيحُ مريضًا لارتفاع نسبة احتمالِ إصابتِه، ولحاجة المجتمع إليه بمجموعِه
ويعتبر تطعيم الأشخاص ضد وباء الكوليرا علاجًا وقائيًّا من المرض الذي يخشى منه قبل وقوعه، وهو ما يسمى في عصرنا الحاضر بالطب الوقائي، وقد أقر الإسلام هذا المبدأ، فقد ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من تصبَّح بسبعِ تمراتٍ من تمر المدينة، لم يضرَّه سحرٌ ولا سمٌّ»؛ (أخرجه البخاري)، كما أقرَّه بما ورد من قواعد الحجر الصحي في مرض الطاعون عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» (أخرجه البخاري)
وإن دفع الأمراض بالتطعيم لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع أدواء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوكل إلا بمباشرة الأسباب الظاهرة التي نصَبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وقد يكون ترك التطعيم إذا ترتَّب عليه ضررٌ محرمًا، كما قرَّره أهل العلم، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله عن التطعيم: "استعمال هذه الإبر ليس فيه بأس، ولا ينافي التوكل، بل هو من فعل الأسباب النافعة التي يدفع الله بها الشر"
إن أخذ التطعيم مستحب، وللإنسان أجر عظيم إذا كان ينوي بذلك حفظَ صحته وأسرته، وحفظ مجتمعه، فهو من باب الأخذ بأسباب الوقاية، وهي عبادة يؤجر عليها. وقد أسهَمت التطعيمات بفضل الله في اجتثاث أمراض مثل الجدري، وحدَّت من انتشار أمراض كشلل الأطفال وغيرها
وقد قامت الدولة مشكورة بتأمين التطعيمات للمواطنين والمقيمين، وأكدت الجهات المختصة ضرورة الْأَخْذِ بالمعلوماتِ الصحيةِ مِنْ مَصَادِرِهَا، والتحذير مِنَ الأَخْذِ مِنَ المعلوماتِ المَغْلُوْطَة، فواجبنا التعاون مع هذه الجهود والتوعية بأهمية أخذ التطعيمات للمساهمة في إنهاء هذه الجائحة
فالنتق الله حق التقوى، ولنتوكل على الله ونحسن الظن به، ونتحصن بالذكر والدعاء، ولنأخذ بأسباب الوقاية والحماية المشروعة من الأوبئة والأمراض، وعلينا أن نراجع أنفسنا ونعود إلى الله ربنا، ونعتصم بحبله، ونجتمع ولا نتفرَّق امتثالًا لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]
محمد حسين دحلان
باحث في الشريعة الإسلامية
وخطيب في جوامع موروني