من قازان/ محمد صالح أحمد ✍️
يُعد كرملين قازان، المُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، رمزاً لهذه الهوية المتعددة. ففي رحابه يقف مسجد قول شريف إلى جانب كاتدرائية البشارة، في مشهدٍ نادر يجمع الإسلام والمسيحية تحت سماءٍ واحدة. أما المدينة نفسها، فقد تحوّلت إلى مركزٍ ثقافي وفني نابض، يحتضن المتاحف والمهرجانات والمعالم المعمارية التي تسرد فصولاً من تاريخ روسيا المتعدد الهويات
الإسلام في قلب الفولغا
من بين المكونات الثقافية العريقة التي تُشكّل هوية روسيا، يحتل الإسلام مكانة بارزة. إذ تضم البلاد سبع جمهوريات ذات غالبية مسلمة، أبرزها تتارستان، التي تُعد من أكبرها وأكثرها تأثيراً في منطقة الفولغا-الأورال
وفي قلب العاصمة قازان، يعلو مسجد قول شريف كأحد أبرز رموز النهضة الإسلامية في روسيا الحديثة. يعود تاريخ المسجد إلى القرن السادس عشر، حين كان يُعد أكبر مسجد في أوروبا بعد مسجد إسطنبول. وتروي المصادر أن الإمام قول شريف، وهو عالم وداعية وقائد روحي، استُشهد مع طلابه أثناء دفاعهم عن المدينة في وجه الغزوات الإمبراطورية
بعد قرون من الدمار، أعيد ترميم المسجد وافتُتح من جديد عام 2005، ليعود مركزاً للعبادة ومتحفاً للإسلام في آنٍ واحد. في أروقته، يتلو شيوخٌ وقراء القرآن الكريم على مدار اليوم، فيما تُعرض مخطوطات قديمة ونسخ مترجمة من المصحف الشريف إلى اللغتين التتارية والروسية
يتبع مسلمو تتارستان المذهب الحنفي السني، ويُعرفون باعتدالهم وتمسكهم بالقيم القرآنية والتقاليد المحلية في آن واحد. ومن أبرز معالمهم الدينية مدرسة شهاب الدين مرجاني، التي أسسها المفكر والعالم التتاري في القرن التاسع عشر، وكانت مناراتٍ للعلم الديني والفكري في تلك الحقبة. ولا تزال جامعة قازان تحتفظ بإرثها الأكاديمي في تدريس العلوم الإسلامية منذ القرن التاسع عشر، مما يعكس عمق الارتباط بين الدين والعلم في المجتمع التتاري
الكرملين الأبيض... شاهد التاريخ الحي
لا تكتمل زيارة قازان دون التوقف عند كرملينها الأبيض، الذي يختلف عن كرملين موسكو ذي اللون الأحمر. فبحسب المرشدة السياحية "كيث"، يتميّز كرملين قازان بلونه الأبيض النقي بفضل الحجر الجيري الذي بُني به، بينما اكتسب نظيره في موسكو لونه من الطوب الأحمر المستخدم في إعادة بنائه خلال القرن الرابع عشر في عهد إيفان الثالث
شيّد إيفان الرابع (الرهيب) كرملين قازان بعد إخضاع المنطقة، لكنه بات اليوم رمزاً للتعايش، إذ يضم في مساحته مسجد قول شريف وكاتدرائية البشارة معاً. الكرملين، الواقع على تلة استراتيجية كانت محاطة بالمياه والمستنقعات، كان في الماضي حصناً دفاعياً صعب المنال، وأصبح اليوم متحفاً مفتوحاً لتاريخٍ طويل من الصراع والتلاقي
وعند مدخله ينتصب تمثال الشاعر والمناضل موسى جليل، أحد رموز المقاومة التتارية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، الذي نال بعد استشهاده لقب "بطل الاتحاد السوفييتي" وجائزة لينين عن أعماله الشعرية التي كتبها في الأسر
جامعة قازان: معقل العلم والمعرفة
تُعد جامعة قازان الفدرالية، التي تأسست عام 1804، من أقدم وأعرق الجامعات الروسية. فهي ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل معلم من معالم الهوية الفكرية الروسية. خرّجت الجامعة أسماءً بارزة تركت بصمتها في التاريخ، مثل فلاديمير لينين، وليو تولستوي، والفلكي إيفان سيمونوف، والفزيائي يفغيني زافويسكي، والكيميائي ألكسندر بوتليروف
ورغم مرور أكثر من قرنين على تأسيسها، ما زالت الجامعة تحتفظ بقاعاتها الأصلية التي شهدت بدايات هؤلاء العظماء، إضافةً إلى أرشيفٍ دقيق يوثق تاريخها العلمي. اليوم، تستقطب الجامعة أكثر من 10 آلاف طالب من 101 دولة، بينهم طالبان من جزر القمر، ما يعكس مكانتها كجسرٍ أكاديمي بين روسيا والعالم الإسلامي
الفن والروح التتارية
في سجلها الثقافي الغني، تحتل الموسيقى والرقص مكانة خاصة في الفولكلور التتاري. فالموسيقى التتارية تُعرف بألحانها الحزينة وإيقاعاتها النابضة بالحياة، تعبيراً عن روح شعبٍ يجمع بين الشرق والغرب. ولا تزال الأغاني التقليدية تُؤدّى إلى اليوم جنباً إلى جنب مع أعمال الفنانين الشباب الذين يمزجون الحداثة باللغة التتارية، في تجسيدٍ جميل لامتداد الجذور عبر الأجيال
وهكذا، تبقى قازان نموذجاً فريداً لروسيا المتعددة الأديان والثقافات، دولة تجمع بين الأرثوذكسية والإسلام، بين التاريخ والحداثة، وتؤكد أن التنوع، حين يُصان ويُحتفى به، يمكن أن يكون مصدر قوة ووحدة في آنٍ واحد