وفي هذه المناسبة، سنعرض بعض الدروس والعبر التي نستفيد منها من الهجرة خاصة في التخطيط والتنظيم. في البداية، علينا أن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خطط ونفذ واستفاد من كل الطاقات والإمكانات المتاحة حوله، ليعلمنا أن الإسلام دين العمل والجد والأخذ بالأسباب، وكيف تدخل الفعل الإلهي لنصرته، ليعلمنا الله أنه مهما أخذنا بأسباب القوة والنصر، فنحن ضعفاء بدونه لا حول لنا ولا قوة
فقد خطط الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر تخطيطا محكما، تحرسه عناية الله تعالى وجميل تدبيره. ودار هذا التخطيط على اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب وحسن توظيف الطاقات. وتجلى ذلك في: اختيار الصديق المناسب، القادر على إنجاح العملية، وكان أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو دور الكبار. كما تم تجهيز الوسائل الضرورية قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك، اللذين قد يحصلا لحظة الهجرة. ولذلك جهزت الراحلة قبل الموعد بأربعة أشهر، وبسرية تامة
وتم إتقان دور المخادعة والمخاتلة الحربية، لضمان تحقيق المهمة بغير مفاجآت، كتكليف علي بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، تمويها على المشركين وتخذيلا لهم، وهذا دور الفتيان الأقوياء. كما تم إشراك النساء في إنجاح الهجرة بما يناسب دورهن. تقول عائشة رضي الله عنها متحدثة عن نفسها وأختها أسماء "فجهزناهما (أي: الراحلتان) أَحَثَّ الجَهاز (أسرعه. والجَهاز: ما يحتاج إليه في السفر)، وصنعنا لهما سُفرة (الزاد الذي يصنع للمسافر) في جِراب (وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين" البخاري
وتم تخصيص حيز للأطفال لإبراز دورهم في هذا الحدث العظيم، ويمثله دور عبد الله بن أبي بكر، الذي كان يتقصى أخبار قريش، وينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وهما في غار ثور. ومن جميل التخطيط، تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من لبن غنمه
ومن كمال التخطيط أن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط دليلا عارفا بالطريق ولو كان مشركا، مادام مؤتمنا، متقنا لعمله، ولذلك أرشدهم بمهارته إلى اتخاذ طريق غير الطريق المعهودة. وتبقى أعظم محطة في هذا التخطيط البارع، تهيئ التربة الصالحة في المدينة النبوية، لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان لابد من اختيار عنصر يجمع بين الكفاءة العلمية، والشجاعة النفسية، والجرأة الدعوية، والفطانة التواصلية، بحيث يستطيع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت المدينة، على أن تتم هذه العملية في غضون سنة
فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة الجريئة مصعب بن عمير، الذي يعتبر نموذجاً لتربية الإسلام للشباب المترفين المنعمين من أبناء الطبقات الغنية. لقد كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأكثرهم ترفا ورخاء، وكانت له أم كثيرة المال، تكسوه أرق الثياب، وتلبسه الحضرمي من النعال، وتضمخه بأثمن العطور، حتى كان أعطر أهل مكة. بل كان إذا نام، وضعت أمه عند رأسه قعبا من الحَيْس (قدحا من التمر والسمن والأقط -اللبن المجفف)، فإذا استيقظ من نومه أكل
فكيف وقع عليه الاختيار لنشر الدعوة الإسلامية في المدينة تمهيدا للهجرة النبوية؟، وكيف سيحظى بأن ينزل فيه قول الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ ]الأحزاب: 23[. وهذا التخطيط الدقيق، الذي جعل من المدينة النبوية أرض الدين والدولة، جعل نور الإسلام على الكون كله. إلى أن وصل إلى جزرنا الغالي. ندعو الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستفيدون من هذا الحدث الهام للعمل بما يرضيه وبالله التوفيق
محمد حسين دحلان
باحث في الشريعة الإسلامية
وخطيب في جوامع موروني