كان هذا ما قالته السيدة فاطمة يوسف وهي تبكي على سنوات كفاحها التي تحولت إلى رماد أمام أعينها حين قامت القوات الفرنسية بالعملية الأمنية "وامبوشو"، التي تعني باللغة المحكية في جزر القمر "الاستعادة"، إذ أرسلت فرنسا عشرات الحفارات والشاحنات وأكثر من 600 ضابط شرطة في مايو الماضي إلى جزيرة مايوت التي تعيش فيها فاطمة من أجل ترحيل أكثر من 10 آلاف "مهاجر غير شرعي" لا يحمل الوثائق اللازمة، وتدمير ألف مسكن من مساكن العشوائيات التي يعيش فيها 40% من سكان الجزيرة الخاضعة للسيطرة الفرنسية، في إطار خطة باريس لمواجهة الهجرة غير النظامية في أراضيها. وقد قامت حكومة ماكرون بهذا الإجراء كي تكتسب شعبية بين الفرنسيين الذي ينجذبون أكثر وأكثر لخطاب اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين، وذلك على خلفية انحدار شعبية الحكومة بعد إقرار إصلاح نظام التقاعد في البلاد، وهو قرار تسبَّب في احتجاجات واسعة
لعل القارئ يظُن لأول وهلة أن فرنسا قامت بهذه العملية ضد مهاجرين غير نظاميين في مدينة فرنسية، لكن الحقيقة أن هذه العملية وقعت على أرض أفريقية تبعد عن فرنسا آلاف الأميال. إنها جزيرة مايوت الواقعة في المحيط الهندي التي تحتلها فرنسا منذ عقود طويلة، على الأقل من وجهة نظر الأمم المتحدة وقراراتها الصادرة عن الجمعية العامة. هذه الجزيرة هي إحدى الجزر المكونة للأرخبيل القمري، ويعيش فيها 310 ألف شخص نصفهم تقريبا تعتبرهم فرنسا أجانب، وأغلبهم من أهل الجزر القمرية المستقلة، التي كانت مايوت جزءا من أراضيهم التاريخية. وتُرحِّل فرنسا 25 ألف مواطن قمري سنويا في المتوسط منذ عام 2018 من الأراضي التي تسيطر عليها، كما أنها منحت حكومة جزر القمر نحو 150 مليون يورو لمكافحة هجرة القمريين "غير الشرعية" على حد وصفها بين عامي 2019-2022
كانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد علَّقت في مقال لها على العملية الفرنسية "وامبوشو" قائلة إنه كان على فرنسا بدلا من تشريد السكان أن تواجه الأزمات البنيوية في تلك المنطقة التي يعيش 80% من سكانها في فقر مُدقِع، ويتلقون مستوى تعليميا يُرثى له، سواء من حيث نسبة مَن يُكملون تعليمهم أو من ناحية مقدار كفاءة المعلمين وجودة أوضاعهم المعيشية
وجدير بالذكر أن معظم سكان جزر القمر سواء الجزر المستقلة أو جزيرة مايوت لديهم عائلات في كلا الجانبين، وبحسب الباحث الأنثروبولوجي "داميان ريشيو"، فإن فرنسا إذا طردت كل السكان القمريين المهاجرين المنحدرين من الجزر الأخرى من مايوت، فإن النتيجة ستصبح تدمير الاقتصاد المحلي في الجزيرة الخاضعة لباريس، إذ إن اقتصاد مايوت، وتحديدا في مجال البناء، يعتمد على العمالة المهاجرة من الجزر القمرية الأخرى
قصة احتلال الجزيرة
تبسط فرنسا سيادتها على أراضي جزيرة مايوت منذ عام 1841، حين اشترت باريس الجزيرة التي كانت تتعرض باستمرار لهجمات القراصنة، قبل أن تحتل جزر القمر بأكملها عام 1912. في وقت لاحق، غيَّرت باريس اسم الجزيرة من الاسم العربي القديم جزيرة الموت إلى "مايوت"، وكانت تُسمَّى جزيرة الموت لأنها محمية بشُعب مرجانية تحيط بها وتحطم السفن القادمة إليها. وفي عام 1974، وبعد النضال ضد الاستعمار الفرنسي، أُجري استفتاء شعبي صوَّت فيه 95% من سكان جزر القمر لصالح استقلال بلادهم، لكن فرنسا اختارت أن تتعامل مع استفتاء كل جزيرة من الجزر على حِدة، وكان 63.3% من سكان جزيرة مايوت قد صوَّتوا ضد خيار الاستقلال، علما بأن الجزيرة مثَّلت 8% فقط من كتلة التصويت القمرية آنذاك
أثار النهج الفرنسي الجدل القانوني على الصعيد العالمي بالطبع، وإن لم يُحدِث الجدل صدى كبيرا، نظرا لأن المتضرر قانونيا جزر أفريقية شديدة الفقر ومجهولة لنسبة كبيرة من سكان الكوكب. لكن فكرة أخذ تصويت كل جزيرة من جزر القمر منفردة كانت فكرة غريبة من نوعها، والسبب أنه حتى في الدول الأوروبية الغنية نسبيا الآن، فضلا عن الدول الأفريقية، لو جرى استفتاء لكل منطقة على حِدة في كل بلد، فلربما فقدت كل البلاد أجزاء كبيرة من أراضيها. ولو أجرت فرنسا نفسها استفتاء مشابها في جزيرة كورسيكا الفرنسية مثلا لربما فقدتها. إن وحدة أراضي دولة ما مبدأ لا يُتعامَل معه على نحو مجزَّأ بأخذ تصويت كل شارع أو منطقة بمعزل عن الأخرى
لقد اعترف رئيس الوزراء الفرنسي السابق "ميشيل روكار" بأن بلاده أحكمت سيطرتها الفعلية على الجزيرة عبر عملية سياسية تراكمية. هذا ولا تعترف الأمم المتحدة ولا الاتحاد الأفريقي ولا جامعة الدول العربية بأحقية فرنسا في الجزيرة، وجدير بالذكر أن دولة جزر القمر المتضررة من فقدان جزيرتها هي دولة عربية رسميا، انضمت إلى جامعة الدول العربية في 20 نوفمبر 1993، ما يعني أن احتلال أراضيها بمنزلة احتلال أراضٍ عربية
موارد طبيعية ونفوذ جيوسياسي.. أهمية مايوت لفرنسا
حين تُعرِّف فرنسا جزيرة مايوت على منابرها الإعلامية الرسمية تصفها أنها حوض أسماك طبيعي ذو تنوُّع بيولوجي استثنائي، وجنة ساحرة لمحبي الغوص في أعماق البحار إلى جانب السلاحف والحيتان، كما تحيط بها واحدة من أكبر البحيرات المُغلقة في العالم. ولا تنسى هذه التعريفات المُشجِّعة على السياحة في الجزيرة أن تُذكِّر قُراءها بأشجار المانغروف ورائحة زهرة "إلانغ إلانغ"، التي تشتهر بها الجزيرة اليوم وتدخل في تركيبات بعض أهم العطور الفرنسية
وللجزيرة أيضا أهمية كبيرة بالنسبة لفرنسا إذا ما نُظِر إليها في إطار حضور فرنسا البحري عالميا، فبفضل سيطرة فرنسا على أراضٍ بالمحيطَيْن الهادي والهندي (وجزيرة مايوت واحدة منها) صارت فرنسا تمتلك مناطق اقتصادية خالصة تُقدَّر بـ11.7 مليون كيلومتر مربع، وهي ثاني أكبر منطقة اقتصادية خالصة في العالم تتمتَّع بها دولة ما. علاوة على أهمية الجزيرة الجيوسياسية نظرا لموقعها القريب من قناة موزمبيق، التي تقع مايوت في وسط المصب الشمالي لها. بالنسبة للثروات الطبيعية، تمتلك القناة احتياطات من الغاز الطبيعي، وهو أمر يجعل بعض القمريين يرون أن وجود فرنسا في الجزيرة وجود استعماري بالمعنى الاقتصادي أيضا، إذ إن أهداف باريس تشمل الإثراء الاقتصادي واستغلال الموارد الطبيعية
هناك أيضا توقعات بأن بحار الجزر القمرية تحمل في طياتها ثروات لم تُكتشف بعد، ووفق هذه التوقعات، ربما تمتلك جزر القمر نحو 1.1 تريليون قدم مُكعَّب من الغاز الطبيعي و7 مليارات برميل من النفط. ورغم عدم وجود أدلة كافية حتى الآن على وجود النفط والغاز، وعدم قيام شركات التنقيب بعمل كبير هناك، فإن احتمالات وجود ثروة نفطية في الجزر ربما يضيف أهمية استراتيجية كبيرة للجزيرة بالنسبة لفرنسا. وجدير بالذكر أن شركات فرنسية كبرى مثل "سيجما" و"لافارج" و"توتال" توجد في الجزيرة لاستخراج الثروات الموجودة والانتفاع منها. وكان "الدكتور حامد كرهيلا"، سفير جزر القمر السابق في الرياض والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، قد ذكر صراحة في مقال رأي أن هدف فرنسا من تشديد قبضتها على جزيرة مايوت هو التحكُّم في موقعها الاستراتيجي، والسيطرة التامة على ثروتها البترولية
فقراء في أوروبا.. أغنياء في أفريقيا
لا يمكن إنكار أن عمليات طرد المهاجرين القمريين من مايوت تتمتَّع بقدر من الدعم في قطاعات شعبية داخل الجزيرة، علما بأن سكان الجزيرة مُسلمون بنسبة 97% ويشاركون بقية القمريين في الدين والنسب ولون البشرة إلى حدٍّ بعيد، لكنهم يخرجون حاملين الأعلام الفرنسية في الشوارع لإظهار الاحتفاء بعمليات الطرد الفرنسية للمهاجرين، بل ينتقد بعضهم تلك الحملات الأمنية لأنها ليست عنيفة وراديكالية بما يكفي. يُضاف إلى ذلك أن "مارين لوبان"، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي المناهض للهجرة، قد حصلت على 43% من الأصوات في الجزيرة في انتخابات عام 2017
فرغم الظروف المعيشية الصعبة في جزيرة مايوت، فإنها من الناحية الاقتصادية تتجاوز جاراتها القمرية الأخرى، فهي بمنزلة منطقة أوروبية تستخدم اليورو وتتمتع بتدفقات مالية فرنسية وبنظام صحي وتعليمي يمكن وصفه بـ"المتقدم"، على الأقل من الناحية التقنية، وإن كانت في الوقت نفسه أفقر المناطق الخاضعة لنفوذ فرنسا، ويفتقد 29% من سكانها للمياه الصالحة للشرب. ويبلغ متوسط الدخل السنوي في الجزيرة 10 آلاف دولار، وهو رقم متواضع أوروبيا وفرنسيا أيضا، لكنه رقم مرتفع بالمقارنة مع بقية الجزر القمرية التي لا يتجاوز متوسط الدخل السنوي فيها ألفيْ دولار. ويخلق هذا التباين صراعا حادا، إذ إن النظرة السائدة لدى نسبة لا بأس بها من سكان مايوت هي أن بقية القمريين المهاجرين يقتسمون معهم امتيازاتهم الأوروبية، ويتسببون في تعطيل التنمية في جزيرتهم بالضغط على الخدمات العامة والمنافسة على الفرص المتاحة لهم في سوق العمل
في الواقع حين تجادل فرنسا بأحقيتها في الجزيرة وشرعية الاستيلاء عليها، تبدأ من نقطة أن 63.8% من سكانها قد اختاروا فرنسا عام 1974، وتشير إلى الاستفتاء الثاني الذي أقامته باريس في الجزيرة عام 1976 وكانت نتيجته موافقة 99.4% من المصوتين على البقاء مع فرنسا وعدم الانضمام إلى دولة جزر القمر. ثم في عام 2009 صوَّت 95.2% من الناخبين في الجزيرة لصالح أن تصبح مايوت مقاطعة فرنسية، وهي كلها أدلة على اختيار سكان الجزيرة الذين يحافظون على تراثهم الأفريقي الإسلامي حتى في أزيائهم، لكنهم مع ذلك يفضلون السيادة الفرنسية
في مقال بعنوان "بين جزيرة مايوت المسلمة وأوكرانيا.. تناقض الاتحاد الأوروبي"، طرح الكاتب "محمد سليم قلالة" في جريدة الشروق الجزائرية مفارقة مهمة، وهي أن الاتحاد الأوروبي الذي يُقِر بأحقية فرنسا في جزيرة مايوت بذريعة الاستفتاء، هو نفسه الذي يرفض ضمَّ روسيا لشبه جزيرة القرم ولوغانسك ودونتسك رغم لجوء موسكو إلى الوسيلة نفسها. وبعيدا عن المفارقة، وكما يتضح من التواريخ السابقة، يبدو أن الرغبة في الانتماء إلى فرنسا قد ازدادت بين سكان مايوت منذ لحظة استقلال جزر القمر وحتى يومنا هذا. وهو ما يجعلنا نتساءل: ما الذي يدفع أعدادا متزايدة من سكان جزيرة مايوت لإظهار رغبتهم في البقاء تحت الإدارة الفرنسية، بعد أن كان نحو 60% فقط منهم يرغبون في ذلك في زمان الاستقلال؟
يريدون البقاء في فرنسا.. ما المشكلة إذن؟
حين قرر رئيس الحكومة القمرية "أحمد عبد الله بن عبد الرحمن" إعلان استقلال بلاده في السبعينيات من جانب واحد بكامل جُزرها بعد إجراء استفتاء شعبي، لم يُعجب الأمر فرنسا، ولم يُعجبها تحديدا إصراره على أحقية جزر القمر في جزيرة مايوت. ولكن لم يكن ممكنا أن تتدخل باريس رسميا حينها، فتوجهت إلى المرتزق الفرنسي "بوب دينار"، الذي قام بدوره بانقلاب عسكري على الرئيس، ثم تولَّى الحكم "علي صالح" الذي لقَّبه خصومه بـ"الديكتاتور المجنون". لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 1978 انقلب الرئيس السابق "أحمد عبد الله" على "علي صالح" لكن هذه المرة بمساعدة "بوب دينار" ومن خلال تعيينه مسؤولا عن الحرس الرئاسي، وقد توقف أحمد بعدها عن الحديث عن جزيرة مايوت بعد ما حدث معه في المرة السابقة
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فحين فكر أحمد عبد الله في عزل "بوب دينار"، اغتيل عام 1989، وحدث بعدها الانقلاب على رئيسَيْن آخرَيْن. وقد أشارت أصابع الاتهام كلها إلى المرتزق الفرنسي في الحالتين، بل وأثبت القضاء الفرنسي دوره بالفعل في إحداهما. حاكمت فرنسا بوب دينار في نهاية حياته على ما قام به في جزر القمر، لكنه أخذ يقول بوضوح إنه قام بالمهام التي أوكلته باريس نفسها بتنفيذها، وإنه عمل تحت إشراف الأجهزة الفرنسية وبتوجيهاتها، وإنه قُدِّم في النهاية كبشَ فداء للجمهورية الفرنسية
هذا هو الدور الذي لعبته باريس في تحويل جزر القمر إلى مسرح للعنف والانقلابات العسكرية، وما تبع ذلك من فشل سياسي واقتصادي استثنائي، يُثني الكثيرين في مايوت عن الرغبة في الاتحاد مع بني جلدتهم في جزر القمر. مع تتابع السنوات إذن يمكن أن نفهم لماذا يشعر قطاع كبير من سكان مايوت بأنهم يسكنون في جنة أوروبية بجوار دولة فقيرة واستبدادية مزَّقتها الانقلابات، ولماذا يصرون على انتمائهم السياسي إلى فرنسا، والحصول على كل المزايا الاقتصادية والاجتماعية لهذا الانتماء، رغم إدراكهم الواضح لعدم انتمائهم الثقافي والديني لها بالضرورة، إذ لا يزال السواد الأعظم منهم من المسلمين، ولا تزال لغتهم الأساسية في حياتهم اليومية هي القمرية تليها الملغاشية السائدة في مدغشقر
بقلم الأستاذ/محمد عزت
كاتب مصري متخصص في النظرية السياسية والسياسات الاجتماعية