واليوم بعد مرور 11 عاما على كارثة تحطم طائرة "الخطوط اليمنية"، ينظر مكتب المدعي العام في باريس في ملف هذه الدعوى القضائية. والناجية الوحيدة بهية بكري، التي كان عمرها آنذاك 12 ربيعا، الصوت الوحيد لـ152 ضحية الذين لقوا حتفهم على متن الطائرة بمن فيهم والدتها. يقول الكاتب فنسون غوترونو في تقرير نشرته صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية، إن أنظار العالم كانت كلها موجهة نحو بهية بكري التي نجت من حادث تحطم الطائرة من خلال التشبث بقطعة حطام لمدة تسع ساعات تقريبًا
واليوم أصبح عمر بهية 23 عاما وهي طالبة لا تريد إلا أن "تطوى صفحة هذه القصة". وفي 27 مايو الماضي، طلب مكتب المدعي العام في باريس "أخيرا" حضور بهية بكري والعائلات التي فقدت أحباءها في تلك الكارثة الجوية، لإحالة الشركة اليمنية إلى المحكمة الجنائية بتهمة قتل وإصابة أشخاص بشكل غير متعمد، والقضية الآن بعهدة قاضي التحقيق. وأشادت بهية بهذه المبادرة قائلة إن "هذه خطوة مهمة، لأنه كان لدي شعور بأن القضية لا تحرز أي تقدم. ومن الناحية الرمزية، من الضروري القول إن هناك أشخاصا يتحملون مسؤولية ما عشناه"
صرخات النساء محفورة في ذاكرتي
التجربة التي عاشتها بهية بكري خارجة عن المألوف. في 30 يونيو 2009، سافرت تلك الطفلة برفقة والدتها إلى جزر القمر، الموطن الأصلي لعائلتها. وسارت أول رحلة طيران من باريس إلى صنعاء في اليمن بشكل طبيعي. لكن بقية الرحلة من اليمن إلى موروني (جزر القمر)، التي كان على متنها 142 راكبا من بينهم 66 فرنسيا و11 من طاقم الطائرة، كانت درامية ومعجزة في الوقت ذاته. تتذكر بهية أن "الطائرة كانت غريبة بعض الشيء، كانت متسخة وغير مريحة". بعد رحلة سلسة، بدأت إيرباص (A310) التابعة للخطوط اليمنية تستعد للهبوط في المطار
وفجأة، بدأت الطائرة تهتز، حيث تتذكر بهية أنه "لم يشعر أحد بالذعر، كنت أقول لنفسي، هكذا الوضع دائمًا في جزر القمر بسبب الرياح". لكن بعد بضع دقائق ظهر "ثقب أسود" واستيقظت بهية لتجد نفسها في الماء. كان الساحل بعيدا جدا ولا يمكن الوصول إليه سباحة، وسرعان ما خيم الظلام على المحيط الهندي. تناهت إلى مسامعها بعض الأصوات، كانت نداءات استغاثة تطلقها نساء، لكن الصوت بدأ يخفت شيئا فشيئا في الفضاء الواسع. تقول بهية إن تلك الأصوات "لا تزال محفورة في ذاكرتها" وتتذكر أنه بمجرد استيقاظها، حاولت على الفور التشبث بقطعة من حطام الطائرة، حيث تبادر إلى ذهنها فيلم "منبوذ" الذي شاهدته في اليوم السابق للحادثة، وفيلم تيتانيك الذي شاهدته عدة مرات، واستغربت أنها لا تزال واعية
ويبين الكاتب أن بهية غالبها النعاس على حطام الطائرة. وعندما استيقظت اختفت صرخات النساء الأخريات، لتجد نفسها وحيدة يحيطها من كل الجهات "حطام الطائرة، وحقائب السفر، وصواني الطعام". وساعدها سيناريو نسجه عقلها في النجاة: "لقد قلت في نفسي إن الجميع وصلوا وأنا سقطت من الطائرة. لقد فكرت كثيرا في أمي وتخيلت أنها في المطار غاضبة تبحث عن النجدة. كان يجب عليّ التشبث بالحطام لأجلها، وإن كان ذلك مخيفا". خاضت المعركة ضد الموت، إلى جانب العديد من الأفكار التي كانت تدور في ذهنها كطفلة على غرار "أسماك القرش"، حيث تتذكر ذلك ضاحكة، إذ ظنت أنها "ستلتهمها" كلما سمعت ضوضاء
واثقة أنني الوحيدة التي سقطت من الطائرة
لكن تبددت تلك الفكرة عندما بدأت الشمس تغيب، وكسر صراخ صيادين قادمين إلى موقع الحادث الصمت المطبق. وتساءلت بهية عما إذا كان ذلك حقيقة أم حلما. ثم نُقلت بهية إلى المستشفى، وسئلت عن أمها التي لم تكن تعلم أنها قد فارقت الحياة. تصدر خبر نجاة بهية من حادث التحطم عناوين الصحف حول العالم، وأعيدت إلى فرنسا وتحلق الصحفيون أمام منزلها في إيسون. تقول بهية "كانت لحظة غريبة جدا، ولا تزال مشاعري متضاربة، فقد حظيتُ بفرصة للعيش، لكنني عشت موقفا دراميا فقدت على إثره أمي وعانت عائلتي كثيرا بعد ذلك. كما فقد العشرات من الأشخاص أحباءهم"
أنظر إلى الوراء فأدرك أنني كنت قوية
تقول بهية إن ما بقي بعد 11 عامًا، من هذا الحادث هو مجرد "فتاة عادية" تدرس لتصبح وكيلة عقارات، وهي تعمل كل أسبوعين في بنك في إطار دراستها، كما أنها ناشطة على شبكات التواصل الاجتماعي. وفي بعض الأحيان، يقول لها الزملاء أو الطلاب الذين يتعرفون عليها إنها "معجزة". وهي تتفاعل معهم دون مشكلة. سافرت بالطائرة وعادت إلى جزر القمر عدة مرات. ويُنظر إليها اليوم على أنها رمز. أفادت بهية بأنها عندما تنظر إلى الوراء وترى نفسها في أعين الناس تدرك كم كانت قوية، ولكنها لا تخفي ما تحس به من ألم أحيانا، لأن غياب أمها لا يزال يؤثر فيها. ومن وقت لآخر، ترسم على محياها ابتسامة عندما تتجاوز إحدى التجارب الصعبة على غرار الفشل في دراسة الطب، وتقول في نفسها "لقد عشت الأسوأ"