فما هي الأشهر الحرم؟ إن الأشهر الحُرُم الواردة في هذه الآية، والمقصودة بالكلام هي الأشهر ذات الحرمة الأبدية، وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» [البخاري في صحيحه، رقم 3197]، فهي ثلاثة سرد وواحد فرد
وهذه الأشهر ورِثَت العرب حُرمتَها وتعظيمَها، فكانت تُعَظِّمها، فتُحَرِّم فيها القتال، وهو مما ورثته من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولذلك جاء في الآية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فهي منذ خلق الله تعالى السماوات والأرض جعلها اثني عشر شهرًا لا ثلاثة عشر شهرًا، ثم بين أن: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وهي التي ذكرناها، وما زال خَلَفُهم من المشركين إلى يوم الناس هذا يؤمنون بحرمات فيقدسونها، ثم ينتهكوا حرمتها، ويحلونها عامًا أو طوْرًا، ويحرِّمونها عامًا، كما يفعلون بأشياء كثيرة؛ حسب أهواءهم
ومن حرمة هذه الأشهر أن الأعمال فيها مضاعفة الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، لذلك أكّد النهيَ عن الظلم فيها؛ فقال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، والظلم هنا يشمل المعاصي كلها؛ كبيرها وصغيرها، بترك الواجبات وفعل المحرمات، مما يتعلق بحقوق الخالق والمخلوق، وكلها ظلمٌ للنفس، لأنها هي التي تُعاقب بجريرة ما كسبت، ولا يضر اللهَ شيئًا، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]
والظلم والمعاصي محرمة في سائر الشهور والأيام، ولكن خصَّ هذه الأربعة بزيادة التحريم وتأكيده، وتشديدًا للنهي عما وقعت فيه الكفار من انتهاك حرمتها، لأجل ذلك كانت مضاعفة الجزاء
فكيف تُعَظِّم الأشهر الحُرم؟ إن من تعظيم الأشهر الحرم: الابتعاد عن المظالم كلها، فلا يظلم ربَّه بأن يشرك معه غيره، في عبادة أو قصد أو رجاء أو خوف أو طمع، فإنه الغني عن العالمين. ولا يظلم غيره من المخلوقات إنسها وبهيمها، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الله تعالى قال في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرمًا، فلا تظالموا» [مسلم في صحيحه، رقم 2577]
ومن أعظم الظلم والمعاصي اليوم إطلاق الألسن في أعراض المسلمين، والتسميع بهم عند العَلمانيين وفي فضائياتهم، لمجرد خلافات، ربما كان محلها مجالس العلم والعلماء، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «كف عليك هذا وأشار إلى لسانه». قلت: يا نبي الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [الألباني؛ صحيح الترغيب والترهيب، رقم 2866 ]
ولا يظلم نفسه أيضًا، لأنه ليس حرًّا في أن يفعل فيها ما يشاء، وكل معصية يرتكبها فهو ظلم لنفسه، لأنه يوردها مهالك الدنيا والآخرة هذه المعاصي. ويُعظِّم الأشهر الحرم بأن يجهد فيها بفعل أنواع المعروف وأبواب الخير، وليتخيَّر أعظمها، فإنها أكثر من الأوقات، ولا يسعه فعلها كلَّها، فليكن من أولوياتها أولاه بالأجر العظيم، ليزداد عظمة بهذه المضاعفة. فتعظيم هذه الأشهر يكون بزيادة التقوى والاجتهاد في العمل الصالح، ولئن يهدي الله بك رجلا واحدًا في هذه الأشهر، لهو خير مما في سواها، خير لك مما طلعت عليه الشمس مضاعفًا، وبالله التوفيق
محمد حسين دحلان
باحث في الشريعة الإسلامية وخطيب في جوامع موروني